الخميس، 11 يوليو 2013

البحرية الإسلامية.. تاريخ نفاخر به

عندما كان الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت يعلن مشاركته في الحرب العالمية الثانية سنة 1942م، فقبل نقل الخطاب الإذاعي قال المذيع الأمريكي مخاطباً الجمهور الأمريكي والعالمي المتابع لخطابه بقوله: "على جميع مستمعي خطاب الرئيس روزفلت أن يتابعوا الخطاب وبيدهم خريطة العالم"، والبحر الأبيض المتوسط يمثل القلب بالنسبة للعالم في قديمه وحديثه وكان ساحة معترك في هذه الحرب، كما كان في قديمه يتمثل في الصورة نفسها، وهذا البيان دليل مباشر على أهميته الجيواستراتيجية، فهو في قديمه قاعدة مثلث العالم القديم القائمة، وعندما أصبح بحراً إسلامياً أصبحت مكانته غير الذي كانت عليه، فهذه المكانة لهذا البحر التي غابت عن عرب هذا العصر في يومنا هذا على الرغم من أن البحر يعتبر في جغرافيته بحراً عربياً عرفت مكانته أمتنا الإسلامية، واستمرت السيادة فيه حتى العهد العثماني، ومع حروب البلقان وشبه جزيرة المورة، فقد سعت الدول الغربية على إسقاط السيادة العثمانية البحرية واتفقت كل من بريطانيا وفرنسا وروسيا على ضرب الأسطول العثماني في 20 تشرين ثاني أكتوبر 1827م، حيث كان يخص كلاً من الجزائر ومصر والدولة العثمانية وبعد القضاء على هذا الأسطول ضعفت السيادة البحرية المتوسطة للعرب وللمسلمين، ومن ذلك التاريخ إلى اليوم تسيطر على البحر المتوسطة سفن وأساطيل القوى الكبرى التي عرفت أهميته الجيواستراتيجية.


هجرة المسلمين إلى الحبشة كانت الأولى في ركوب البحر:
عرف المسلمون البحر منذ فجر الإسلام، وذلك من خلال هجرة فريق منهم إلى الحبشة هرباً من إيذاء قريش وفراراً بدينهم فكانت هذه الحادثة أول صلة لهم بالبحر وركوبه. وعندما وسعت جزيرة العرب رسالة الإسلام، وانطلق أبناء الجزيرة في حمل رسالة الإسلام، وغدا ركوب البحر ضرورة من ضرورات الجهاد في سبيل نصرة الإسلام، فقد تطلع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يحفر الخندق من بعد أن حاصره يهود المدينة وقريش ومن حالفها من العرب، تطلع إلى فتح الشام وفارس واليمن، ولم يذهب الأجل برسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا وكان قد طرق باب الشام بغزوة تبوك ومؤتة وتجييشه لجيش أسامة بن زيد رضي الله عنه، إيماناً منه - صلى الله عليه وسلم - بدفع صحابته إلى السعي والعمل على نشر رسالة الإسلام من بعده، وإذا كان عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يشهد المسلمون فيه ركوب البحر مجاهدين في سبيل الله، فإن عصر الخلفاء الراشدين قد شهد ركوب المسلمين البحر عاملين على نشر رسالة الإسلام.

والباحث في ذاكرة التاريخ الإسلامي يجد بأن ما خلفته هذه الذاكرة في كيفية صقل الإسلام للشخصية العربية عندما آمنت به شريعة ونظام حياة، فقد فاق العرب المسلمون معاصريهم من الأمم، وكانوا أكثر منهم حضارة ورقياً، ومن جزيرة العرب خرج العرب في سبيل نصرة الإسلام وتدويل رسالته بين الدول والأمم، فامتطوا من أجل ذلك ظهور السفن وركبوا البحار كما لو أنهم على ظهور خيولهم وإبلهم، وهذه الصورة في قصة ركوب البحر من قبل العرب المسلمين، وكان ابن خلدون قد تناولها في مقدمته، فتكلم عن عامل الخوف عند العرب المسلمين من سكان وسط الجزيرة العربية بخلاف إخوانهم من عرب الجنوب اليمني، فقد كانوا أهل بحر وسادة بحار الهند والصين، ولكن ابن خلدون أردف كلامه هذا بكلام نسخ ما سبقه، وهو قوله أن العرب عندما أصبحوا علماء بفنونه وعلومه كسروا عقدة الخوف منه وركبوا وسادت لهم البحار والقفار.

موقف الخليفة عمر بن الخطاب من ركوب البحر:


تعتبر الدكتورة سعاد ماهر رحمها الله أستاذة التاريخ والحضارة الإسلامية في جامعة القاهرة خير من تناول موضوع علاقة المسلمين في البحر وركوبه وذلك من خلال كتابها القيم "البحرية في مصر الإسلامية وآثارها الباقية" وقد تبنت في هذا الكتاب موضوع الرد على ابن خلدون في تعليل عدم ركوب المسلمين البحر، وقد اجتهدت في أن يكون ابن خلدون قد قال كلامه هذا في عدم ركوب المسلمين البحر على قول عمر الخطاب رضي الله عنه، فقد استأذن معاوية والي عمر على الشام عمر في ركوب البحر، فلم يأذن له، واستشار عمرو بن العاص رضي الله عنه على مصر وهو أهل للاستشارة، فكتب له عمرو يقول: يا أمير المؤمنين، إني رأيت البحر خلقاً كبيراً يركبه خلق صغير، ليس إلا السماء والماء، إن ركد أحزن القلوب وإن ثار أزاغ العقول، يزداد فيه اليقين قلة، والشك كثرة، هم فيه كدود على عود، إن مال غرق وإن نجا برق فلما وصل الكتاب إلى عمر رضي الله عنه أرسل لمعاوية كتاباً يمنعه فيه من ركوب مخاطر البحر وهذه الصورة أشار إليها ابن خلدون كما سبق وأشرنا، على أن العرب لبداوتهم لم يكونوا في أول الأمر مهرة في ثقافة البحر وفنونه وركوبه فهم أهل خوف من ركوبه، وهنا تأتي الدكتورة سعاد ماهر في الدفاع عن سياسة عمر تجاه منع معاوية مما لحق فيه في هذا المنع، فتقول: إن العرب في وسط شبه الجزيرة العربية لم يكونوا يعنون بالبحر في بداية دولة الإسلام، وإن عمر رضي الله عنه بما جبل عليه من روية ورزانة يستهدي المنطق السليم، وهو يكبح جماح قواده من الغزوات التي يبدو له وفيها ولو نزر يسير من المخاطرة بأرواح المسلمين، فإن كان رأيه في الغزوات البرية يقوم على هذا التريث والحكمة فكيف بركوب البحر؟؟ فقد عارض فتح مصر وكانت براً، ولهذا لم يجد ابن الخطاب رضي الله عنه من استشارة عمرو بن العاص بداً، لا سيما وأن الولاية القائم عليها تطل على هذا البحر، وقد كانت ممانعته بسبب الخوف على المسلمين، ولهذا لم يوافق على طلب معاوية في غزو قبرص، وتمضي الدكتورة ماهر في الدفاع عن عمر ومبرئة له، مشيرة في الوقت نفسه إلى مكانة البحر في كتاب الله، وتسخيره من قبل الله لبني الإنسان، ماضية بالقول في موافقة عمر على شق القناة من النيل إلى البحر الأحمر، وقد استخدمت هذه القناة لنقل القمح من مصر إلى المدينة، وأقول: إن المطلع على رأي عمر رضي الله عنه لمشروع عمرو بن العاص، في شق قناة من بحيرة التمساح إلى البحر الأبيض المتوسط شمالاً لقناة السويس القائمة اليوم، يرى فيه الصواب وذلك عندما خاف على حجاج المسلمين من أساطيل الروم، وتهديدهم لهم إضافة للخطورة على أمن بلاد المسلمين في بلادهم، فعندما حمل والي عمر على البحرين عثمان بن العاص الثقفي أول حملة بحرية قام بها في بحر الهند، وذلك عندما أبحر من عمان فوصل إلى "تانة" القريبة من بومباي، واتجه أخوه في خط آخر إلى مصب نهر السند حيث هناك خول "الذيبل" فعندما عاد كتب إلى عمر يعلمه بذلك، فكتب إليه عمر جواباً على كتابه يقول فيه "يا أخا ثقيف حملت دوداً على عود، إني أحلف بالله لو أصيبوا لأخذت من قومك مثلهم"، وقد غزا الصحابي الجليل العلاء بن عبدالله الحضري والي البحرين بعد الوالي عثمان، بلاد فارس بحراً وعندما علم الخليفة بذلك، استنكر عليه ذلك لأنه لم يستشره، مع أن العلاء كاتب وحي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحامل رسالته إلى ملك البحرين المنذر بن ساوى، فذلك هو موقف عمر رضي الله عنه تجاه البحر والغزو فيه.

وعندما خلفه عثمان بن عفان رضي الله عنه، وافق لمعاوية على ركوب البحر بعد ممانعة على طلب سابق، وقد غزا معاوية قبرص سنة 27هـ وشاركت في الحملة الصحابية أم حرام واستشهدت فيها ولا زال قبرها موجوداً هناك، وبهذا يكون معاوية أول وال على الشام ركب البحر غازياً، وقد تكررت غزوات المسلمين في البحر الأبيض المتوسط، وفي العهد الأيوبي تم استعادة البحر بعد أن غدى يعرف ببحر الروم.

البحر الأبيض المتوسط أصبح بحراً إسلامياً في العهد الأموي:
مع قيام الخلافة الأموية على أرض الشام فقد نشط معها الفتح الإسلامي براً وبحراً، فقد كثرت غزوات المسلمين على بلاد الروم بحراً، فقد غزا القائد البحري المسلم عبدالله بن قيس أكثر من خمسين غزوة بحرية بصائفة وشاتية، ففي سنة 30هـ فتح جنادة بن أمية الأزدي جزيرة رودس التابعة للروم، وفي سنة (34- 655م) وقعت معركة ذات الصواري، وقد قصد المسلمون من وراء هذه الحملة تأديب الروم، حيث خرج الأسطول الشامي بقيادة ابن قيس والأسطول المصري بقيادة عبدالله بن أبي السرح، وفي هذه المعركة انتصر المسلمون على الروم، وكان قائد الروم قنسطانز بن هرقل الذي نجا بأعجوبة فاراً إلى صقلية وهناك قتله أهلها، وفي سنة 49هـ هاجم المسلمون القسطنطينية بقيادة سفيان بن عوف وجنادة الأزدي، وقد بلغ عدد أسطول المسلمين في هذه الحملة 1700 سفينة، وقد أنجد معاوية الحملة بمدد قاده ابنه يزيد وسار في معيته عدد من الصحابة منهم أبو أيوب الأنصاري الذي استشهد تحت أسوارها ولا زال قبره معروفاً هناك، ولعدم وجود قوى بحرية غير إسلامية في البحر المتوسط فقد فتحت شواطئ البحر وجزره أمام المسلمين، ففي سنة 54هـ غزا المسلمون كريت، وفي سنة 68- 69هـ غزا المسلمون صقلية وعادوا محملين بالغنائم، وتواصلت غزوات المسلمين في كل أرجاء البحر الأبيض المتوسط، وغزوا ثانية القسطنطينية سنة (59-679م) ترتب عليها توقيع اتفاقية صلح بين قسطنطين الرابع ملك الروم والدولة الأموية وبهذا يكون قد تحققت السيادة الإسلامية على البحر الأبيض المتوسط ويعلق الدكتور حسين مؤنس رحمه الله على عجز المسلمين عن فتح القسطنطينية منذ العهد الأموي ولو استطاعوا لتغير وجه التاريخ الأوربي، فقد أتاح لها عدم فتحها قرابة التسعة قرون على المحاولات الأموية، إتمام دورها التاريخي الكبير في الحفاظ على صبغ البلقان بالصبغة الصقلية، والثانية هي إدخال الصقالبة جميعاً بمن فيهم الروس في النصرانية، ولهذا فعندما سقطت القسطنطينية على يد العثمانيين سنة 1453هـ كانت هذه المدينة قد أتمت مهمتها ودورها التاريخي في هذين الجانبين، اللذين كان لهما أبعد الأثر في مسيرة الإسلام في شرق أوربا بل في تاريخ أوربا كلها، انتهى كلامه رحمه الله وبعد فتحها أصبح اسمها بلد الإسلام إسلام بول أو استانبول.



وقد جاءت السيادة هذه بعد أن اهتم المسلمون بسلاح البحرية فبنوا له الدور والأحواض، وكان عمرو بن العاص من أوائل من اهتم ببناء السفن وأنشأ لها داراً خاصة في جزيرة الروضة المصرية وذلك لأن المصريين كانوا أهل علم بصناعة السفن، وعلى الساحل الشامي بنى معاوية عدداً من الدور لصناعة السفن، واستقدم لها عمالاً وموظفين مصريين، وقد بلغت سفن الأسطول الأموي في عددها 1800 سفينة، وقد كانت مقسمة على خمسة أساطيل، فكان أسطول مصر وكانت قاعدته الإسكندرية وأسطول إفريقية وقاعدته تونس، وأسطول النيل وقاعدته بابليون، وأسطول خاص بالمحيط الهندي، وكان هناك أسطول يحمي مداخل النيل، وقد حفظت لنا ذاكرة التاريخ الإسلامي الخاصة نشاط المسلمين البحري، لأن الدولة الأموية كانت تنفق سنوياً (7000) دينار على دور الصناعات، ففي عهد عبدالملك بن مروان تم إنشاء دار للسفن هناك، وقد بنت هذه الدار أسطولاً بحرياً بلغ عدده في حدود المئة سفينة كانت خاصة بالقائد المسلم موسى بن نصير رحمه الله.

ويجب أن نذكر بالخير هنا إضافة للدكتورة سعاد ماهر الدكتور حسين مؤنس في جهده القيم عندما أصدر كتابه النفيس أطلس تاريخ الإسلام، فقد خص فيه باباً خاصاً بالبحرية الإسلامية خصه بما يزيد على عشرة خرائط بحرية وثق فيها السيادة الإسلامية على البحر المتوسط، وأن بني أمية هم أصحاب هذا الشأن، كما كتب كتاباً آخر وعنونه بـ(تاريخ المسلمين في البحر الأبيض المتوسط)، تكلم فيه كذلك عن مكانة بني أمية في أسلمة هذا البحر.

أما في العهد العباسي فقد قل اهتمام الدولة بالبحر وركوبه، ولهذا السبب فقد تراجع نشاط المسلمين البحري، ويرجع ذلك لبعد عاصمة الخلافة عن البحر، وبقيت السيادة الإسلامية على البحر بتعاقب الدول الإسلامية بين قوة وضعف وخاصة في فترات العصور الوسطى الفاطمية -العبيدية- وفترات الحروب الصليبية وإلى تاريخنا الحديث المعاصر - عهد الدولة العثمانية، فعلى واقع حرب القرم والمورة الذي ترتب عليهما استقلال اليونان سنة 1826م، فقد كانت معركة نافارينوا في 20/10/1827م، حداً فاصلاً في ضعف الأسطول الإسلامي في البحر المتوسط، حيث انهارت السيادة الإسلامية في هذا البحر مع تنامي أساطيل دول الغرب


الاستعماري فيه، وانهيار الخلافة العثمانية بقيام الدولة التركية ووقوع معظم بلدان العالم العربي في براثن الاستعمار الأوربي. والبحر الأبيض المتوسط في أهمية موقعة الجيوسياسي يحتل المكانة العالمية التي عرف فيها في ماضيه، فهو في حاضره كماضيه من حيث المكانة والأهمية، فهو يمثل قلب العالم كما صنفه الجغرافي البريطاني "ماكيندر" ومن يملك القلب يملك العالم، كل هذا والواقع العربي غابت عنه مكانة هذا البحر التي سبق وعرفها أسلافه العرب فكانت لهم السيادة عليه طيلة أكثر من اثني عشر قرناً وذلك بما امتلكوه من أساطيل حربية كانت سبباً مباشراً في هذه السيادة الإسلامية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.