العلماء في زمن الفتنة
تمر الأمة في بعض فتراتها بفتن كثيرة وعظيمة يضل فيها كثير من الناس، وقد لا يقف الضلال عند حد المعصية والذنوب والمخالفات الشرعية، بل قد يتطور إلى الكفر بالله! روى أبو هرير رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا".. [1]إنَّ الفتنة قد تأتي مظلمة تمامًا بحيث يصبح التعرُّف على الحق فيها أمرًا شاقًا جدًا، كمن يسير في الظلام الدامس لا يكاد يرى موضع قدميه..
وكلما اقترب المسلمون من الساعة زادت الفتنة واشتد ظلامها..
روى أبو هريرة رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يُقْبَضُ العِلْمُ، وَيَظْهَرُ الجَهْلُ وَالفِتَنُ، وَيَكْثُرُ الهَرْجُ"، قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الهَرْجُ؟ فَقَالَ: "هَكَذَا بِيَدِهِ فَحَرَّفَهَا، كَأَنَّهُ يُرِيدُ القَتْلَ" [2]
ماذا نفعل في هذا الزمن الذي كثرت فيه الفتن؟
إنَّ هناك إشارة غير مباشرة في الحديث السابق لرسول الله صلى الله عليه وسلم توضِّح المخرج.. فإنه صلى الله عليه وسلم بدأ كلامه بقوله: "يُقْبَضُ العِلْمُ"، ثم أتبعها بقوله: "وَيَظْهَرُ الجَهْلُ وَالفِتَنُ"، وكأنه يشير إلى دور العلماء في مقاومة الفتن، وإخراج المسلمين من أزمتهم الخطيرة.ماذا ينبغي على العلماء في زمن الفتنة؟
إنه ينبغي عليهم بوضوح أن يعلنوا عن رأيهم الذي يرونه صوابًا بناءً على ما درسوه من قواعد الشريعة، وقد جرَّدوا نواياهم لله عز وجل، وأجرهم عليه سبحانه..إنَّ هذا الأمر خطير في زمان الفتنة!
فالفتنة بتعريفها أمر يحتار فيه الناس، ولا يدركون على وجه اليقين الكامل الصواب من الخطأ، ومن ثم تكثر الرؤى، وتتباين الآراء، وقد يتحمس كل فريق لرأيه حتى لا يرى رأيًا غيره، وقد يتهور بعض طلبة العلم على مشايخهم وأساتذتهم نتيجة مخالفتهم لرأيهم، أو لاتباعهم رأي عالم آخر يرى أمرًا مغايرًا، مع أنَّ هذه المخالفة العلمية في الرأي أمر طبيعي جدًا في زمن الفتنة..
ولن يستطيع العالم أبدًا أن يرضي كل الأطراف، ومن ثم فعليه أن يقول رأيه مخلصًا، وهو لا يبغي إلا إرضاء رب العالمين وكفى.
وعودة سريعة إلى صفحات التاريخ لمعرفة اختلاف العلماء في زمان الفتنة..
فبعد مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه حدثت فتنة كبيرة في الأمة، واختلف علماؤها اختلافًا كبيرًا في آرائهم، ولم يكن الاختلاف في تحديد مَنْ الذي على الحق، ومَنْ الذي على الباطل، ولكن كان الاختلاف في كيفية التعامل مع الحدث..
كان الانقلابيون المتمردون من أخبث الناس، وأكثرهم خيانة، فلم يختلف على ذلك أحد، وكان عثمان بن عفان رضي الله عنه من أعظم الناس وأشرفهم، ولم يختلف على ذلك أحد أيضًا، ولكن الاختلاف كان في كيفية التعامل مع قاتلي هذا الرجل العظيم، مع إدراك الجميع أن الانقلابيين مجرمون خسيسون.
رأى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومعه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، أن يؤخِّر إقامة الحد على الإنقلابيين القتلة، بل سمح بوجودهم في جيشه، وذلك لأنه نظر إلى الأمر بشكل واسع، فوجد أن الحدَّ الذي سيقام على القتلة الانقلابيين سيقود جموع قبائلهم إلى التمرد على الدولة في بقاع كثيرة، مما قد يؤدي إلى انهيار الدولة، فقدَّم بقاء الدولة على إقامة الحدِّ عاجلاً، ومن ثم قرر تأجيله.
أما عائشة وطلحة والزبير رضي الله عنهم جميعًا فقد رأوا تطبيق الحدِّ على القتلة عاجلاً، لأنه لا يجوز تعطيل شرع الله، وقد قُتل عثمان رضي الله عنه مظلومًا، ولابد من أخذ الحق من قاتليه الآن..
فهاتان رؤيتان مختلفتان تمامًا، مع أن كلا الفريقين يعلم أن الحق كان مع عثمان رضي الله عنه، وأن المنقلبين عليه مفسدون مجرمون.
وهناك فريق ثالث من العلماء آنذاك لم يستطع أن يحدد على وجه اليقين أين الصواب في التعامل مع ملف الانقلابيين، واحتاروا هل ينبغي الصدام معهم الآن كما قرر فريق عائشة وطلحة والزبير ومعاوية رضي الله عنهم، أم الأفضل تأجيل إقامة الحدِّ وتفويت فرصة الصدام كما رأى علي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وكان من هذا الفريق الثالث عبد الله بن عمر، و سعد بن أبي وقاص، وأسامة بن زيد رضي الله عنهم جميعًا، وهؤلاء قرروا اعتزال الأمر إلى أن تتضح لهم الرؤية..
والآن مع نقطة مهمة جدًا في الفهم..
نحن أمام ثلاثة آراء مختلفة لثلاثة فرق من العلماء الكرام، وكلهم من المبشرين بالجنة، وممن يشهد لهم الجميع بالصلاح والتقوى، فما الحل؟
هل يغيِّر أحدهم رأيه ليوافق الآخرين؟!
إنَّ هذا -في نظر كل واحد منهم- لا يجوز!
إنَّ كل فريق يرى - مخلصًا - أن الصواب معه، وأنه لا يجوز أن يسير في الاتجاهين الآخرين، ومن ثم أعلنها صريحة واضحة، وثبت في اتجاهه الذي اختاره..
حتى الفريق الثالث وهو فريق المعتزلين للفتنة، فعلوا ذلك لأنهم لم يدركوا أين الحق، ولو أدركوا أن الحق مع أحد الفريقين ولم ينصروه ما جاز لهم الاعتزال..
ولاحظ أننا نتكلم عن هذه الآراء وقت حدوث المشكلة لا بعدها، لأنه بعد شهور أو سنوات من الحدث قد يغير أحدهم رؤيته بناءً على النتائج التي رآها الجميع بعد ذلك، ولأننا أدركنا أن الصواب كان مع التهدئة التي أرادها علي بن أبي طالب رضي الله عنه، والذي كان ينظر إلى العواقب، ولا يتأثر بالحماسة المفرطة عند المطالبين بحلِّ المشكلة الآن، ولم يكن عاطفيًا مندفعًا، خاصة أن الجريمة التي تمت كانت قتل الخليفة وليس مجرد عزله، ومع ذلك فأنا أقول أنه في وقت أخذ القرار لم تكن هذه النتائج ظاهرة، ومن ثم كان لابد من أن يعلن كل صحابي رأيه الذي يجده صائبًا وموافقًا للشريعة فيما يظن، وهذا ما سيسأله الله عنه، حتى لو كان مخالفًا لـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
إن هذه هي الأمانة العلمية، وهذا هو الخوف من الله..
هذا ما نعيشه الآن..
كلنا متفقون أن المتمردين على الدكتور مرسي -حفظه الله- ظلموه وظلموا حكومته، وانقلبوا عليه انقلابًا فيه خيانة ظاهرة، ومارسوا بلطجة على رأي الشعب، وهم من الظلمة المفسدين، لا يختلف على ذلك العلماء من شتى الاتجاهات والمدارس، لكن آليات التعامل مع الموضوع بعد وقوع الظلم ستكون مختلفة بين العلماء؛ لأن المسألة فتنة، والرؤية ضبابية في كثير من الأحيان، وقد يرى بعض العلماء أن الإقدام أولى، ويرى حتمية التعجيل بردِّ الحق الآن، بينما يرى آخرون أن مفاسد الإقدام أعلى من الانسحاب، فيقدم الانسحاب، ومحاولة تخفيف المضار، إلى أن يأتي وقت يمكن فيه الانتقام من الظالمين، بينما يرى فريق ثالث التوسط بين هذا وذاك بشكل أو آخر، ومن المؤكد أن هناك فريق رابع لايدري على وجه الحقيقة ماذا ينبغي أن نفعل، ولذلك لا يتجرأ على إعلان رأي قد يكون فيه مخالفة شرعية من وجه أو آخر..
المسألة هكذا صعبة وعسيرة، وهذه طبيعة زمن الفتنة، وكل ما نرجوه من العلماء أن يتجردوا في آرائهم، فيعلنوا ما يرونه صوابًا من وجهة نظرهم بناءً على ما عرفوه من قواعد الشريعة، وفي نفس الوقت نطلب من طلبة العلم وعوام الناس أن يرحموا العلماء من ألسنتهم، وألا يمارسوا عليهم ضغطًا يقودهم إلى الخطأ في الرأي، والزلة في القرار، وهذا لأن أحدًا لن يشارك العالم في حسابه أمام الله عز وجل، بل سيظل وحده مسئولاً عن الرأي الذي قاله، والقرار الذي اتخذه، وليعلم الجميع أن العلماء هم الذين يقودون الشباب والجموع، وليس العكس، وإلا تضاعفت مضار الفتنة، ونسأل الله السلامة والعافية..
اللهم نوِّر بصائر علمائنا في هذه الفتنة، واهدهم إلى ما يرضيك، واجمع كلمة المسلمين، ووحِّد صفَّهم، إنك على كل شئ قدير..
ونسأل الله أن يعز الإسلام والمسلمين.
[1] الإمام مسلم.
[2] الإمام البخاري
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.