الأربعاء، 30 أبريل 2014

في نيسان غيَّر نزار عنوان إقامته : مقال أدبي لاحلام مستغانمي في ذكرى وفاة الراحل نزار قباني

لا يليق نيسان بنوم الشُعراء .

 
 رحيل نزار في آخر يوم من نيسان ، أسوأ تقويمٍ عاطفي اخترعته الطبيعة ، لتؤرّخ لموت شاعر نذر حياته لتمجيد نيسان ، و عشقاً لوجع النهايات الربيعيّة . هو الذي كان ينادي على حبيبته مغازلاً :
" عصفورة قلبي.. نيساني " أكان يُنادي موته ؟
في غرابة هذه المصادفة ، شيء من سخرية القدر ، الشبيهة بموت الممثلة اليونانية لينا ميركوري بطلة الفيلم الشهير " إلاّ يوم الأحد " ذات أحد .
مازلت لا أصدّق أن نزار يسكن منذ سنوات مناطق منزوعة الشهوات ، وأنه اختار نيسان بالذات ليغيّر عنوان إقامته ، برغم العلاقات السيئة التي أقامها مع الموت ، الذي كان يبتاغه كلّ مرة خاطفاً منه أحبّ الناس اليه . كان فيما يخصّه ، يتصرّف وكأنّه ليس معنياً تمامًا بذلك الحدث الجلل . وهو ما حيّرني ، فما كان يبدو عليه أنه يشاركني هاجسي ، و ذعري الدائم مما سأتركه خلفي غير منجز عند رحيلي . . إلى أن غيّره المرض .
حدث ذلك عندما وقع في المصعد . أذكر أنه قال لي " هذا العظم شغلة تعيسة.. وقعة الأسانسير ماتصوّرتها صعبة الى هذا الحد ! " . لاحقاً ، قال كمن يبشّرني ، أنّ بإمكانه الذهاب الآن مرتاحاً إلى المستشفى ، فقد أرسل ما على طاولته من كتابات الى ناشره الدكتور سهيل ادريس . أدركت أنه دون أن يعترف بذلك بدأ يستعد لكلّ الإحتمالات 
 لقد بدأ نزار يشكو بإلحاح من خاصرته . و دخل المستشفى ليخرج منه للمرّة الأولى عجوزاً يتكىء على عصا ، و كان في هذا الأمر إهانة لا لرجولته و أناقته ، و إنما قبل هذا لقامته الشعريّة ، فقد كان نزار حيث خطا يخطو معه الشعر ، و كان تعيساً لأنه بعد الآن أصبح يمشي " مُتكئاً على الجُمل " بعد أن كان الشعر هو الذي يتكئ عليه.
نزار لم يُفرّق يوماً بين الشعر و قائله، ولا بين جسد الشاعر و جسد كلماته ، كان يعتبر كلّ وعكة صحيّة وعكة شعريّة ، لذا تواطأ جسده مع نصّه ، محاولاً بكمياء الكبرياء الطاغية في جيناته ، أن يحافظ على خيلاء الشعر و عنفوانه ، مكابراً في مشيته ، كما في جلسته و طلّته. وعندما هزمه المرض ، راح يُخفي عن الأنظار جسده ، و كأنه يخفي عن الآخرين نصاً شعرياً هو غير راضٍ عنه ، ولا يليق به .
في آخر أيامه ، لاذ بابنته هدباء كي تحميه حتى من عيون محبّيه " احميني يا ابنتي ! " . كان هذا الرجاء هو ما أبكاني عندما سمعته منها رحمه الله .
احترمت حياءه . فمنذ الأزل " العصافير تختبىء لتموت " . لم أسافر الى لندن لأراه ، اكتفيت بإرسال سلّة وردٍ تنوب عنّي لديه ، كنت أدري أنه لن يرها . لذا سعدت حين بلغني أنه عاد من غيبوبته الطويلة إلى الحياة . . وقرأ رسالتي إليه . 
 ثم حدث بعد غيبوبة دامت ثلاثة أشهر ، أن طلبني ذات يوم ليطمئن عليَّ ، كما لو كان يتبرّأ من شائعة موته . لصاعقة المفاجأة ، و لفرط حماقتي صدّقته ، و انشغلت عنه دون أن أنسى أنه قد يكون عاد ليختبرنا لا أكثر ، كما دخل تلك الغيبوبة ليختبر بالموت حبّنا له ، فلقد ظلّ يقيس بمقياس ريختر للألم ، درجة الهزّة التي سيتركها فينا غيابه .
نزار الذي أنهى حياة ناريّة ، بطلب كوب من الماء ، من ابنته هدباء ، ووضع حدّاً لشلال عمرٍ من الكلمات التي " لم تكن كالكلمات " بقول كلمة فائقة التهذيب " شكراً " ، و أغمض عينيه ليتركنا مذهولين . ألهذا الحدّ كان ظمِأً لشيء لم نعرف أن نعطيه إياه .
هل أكثر الكلمات وجعاً ، هي تلك الصغيرة العاديّة ، التي تشبهنا الأكثر و ننفضح بها لحظة الفراق الأخير . لمن قال الشاعر الفائق التهذيب " شكراً " ؟ للحياة ؟ أم للشعر ؟ لمن أحبّوه ؟ أم لمن أحبّ ؟ للذين خذلوه..أم للذين كانوا دقيقين في وفائهم كما الموت ؟ .
وماذا لو كان قد قالها للموت . الموت الذي أنقذ قامته الشعرية من مهانة المرض .
نزار الذي علّمنا التهذيب في الموت . لم يترك لنا شيئاً نودّعه به غير " شكراً ". أعني : " شكراً.. لطوق الياسمين أيها الشاعر الجميل ".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.